الشيعة الإمامية بين النص والتاريخ-دراسة في مراحل التكوين الأولى_وجيه قانصو (أستاذ الفلسفة بالجامعة اللبنانية، علماني عقلاني)
ندوة حول كتاب "الشيعة الإمامية بين النصّ والتاريخ"، للدكتور وجيه قانصو
اقامت الحركة الثقافية –انطلياس ندوة حول
كتاب "الشيعة الإمامية بين النص والتاريخ" للدكتور وجيه قانصو شارك فيها
اضافة الى المؤلف الاب الدكتور جوزف بو رعد والدكتور جمال نعيم.
اعتبر قانصو في كلمته أن "مهمة الكتاب كانت
إعادة ظاهرة التشيع إلى أصولها ومنطقة اشتغالها لكي تفصح عن خصوبتها، أي
إعادتها إلى التاريخ الإسلامي وحتى الكوني واعتبارها جزءاً منه، لا أمراً
طارئاً عليه أو
سراًخاصاً اعتقدته جماعةمن المسلمين،وتناقلته عبر أجيالها المتعاقبة بتقية متقنة".
وقال "التشيع ليس
مجموعةمعتقدات ظهرت دفعةواحدةمنذأول أمرها، وليس حقيقة
منجزة ملقاة علينا من خارج التاريخ أومتعالية على تحولاته ومتغيراته،وبمنأى عن محدودية أحداثه وعشوائيتها
فوضويتها وانتظامها، زيفهاوأصالته.
هو
ظاهرة لم تتخذشكلا موحداً في التاريخ،ولم تحصل بفعل تآمر خارجي، ولابفعل عناية إلهية
مباشرة، بل ظهرت من رحم الواقع،واستعارت منه مكوناتها الاجتماعية والثقافية وخطابها وتضامناتها.
إنها مشهد داخلي نابع من صميم الواقع الإسلامي،ويندرج ضمن التفاعلات التاريخيةالتي حصلت في المجال
الإسلامي،بحيث لو حذفت وأقصيت أو إمحيت
وقائعها،فإن أصل الذاكرةالاسلامية يتعرض للتزييف والتشويه والتلاعب
كان غرض الكتاب قراءة المذهب الإمامي
الشيعي، لا لنتعالى به أو نتهمه، مثلما درج النقاش المتبادل بين الإمامية
وخصومها، بل نتعامل معه بصفته منتجاً إسلامياً، ظهر ونما واستقر داخل سياق
تفاعلي بين المكونات الإسلامية المتعددة، وفَرضَ وضعه السياسي اتخاذَ هيئة
اجتماع وتكوين عقائدي خاصين يتمايز بهما عن التكوينات الإسلامية الأخرى، من
دون أن يفارق الأرضية المشتركة الرافعة لكل المذاهب والتيارات. نحن أمام
واقع إسلامي أنتج تنويعات متعددة كان التشيع أحداها، وليس أمام إطار مصطنع
لمسارات متجاورة ومنفصلة عن بعضها".
واشار الى أن" التشيع حصيلة تفاعلات
سياسية-دينية ممتدة في التاريخ، وظاهرة لم تأخذ شكلاً تضامنياً واحداً ولا
بنية عقائدية ثابتة. فكان في جميع مراحل تكوينه الأولى مرآة للواقع السياسي
والفكري السائد، الذي استعار منه مقولاتَه المتداولَةَ، السياسية والعقلية
والعلمية، لصياغة خطابه وبناء رؤيته وتوليد حججه، فكان نتاج واقع محموم
بصراع الخيارات المحتملة متخمٍ باصطفافات تداخلت فيها عناصر الثروة
والعصبية القبيلة والوجدان الديني". مؤكدا أنه "حين يتحول التشيع إلى مذهب
عقائدي صارم، فإنه لا يُحدث قطيعة مع غيره فحسب، بل قطيعة مع نفسه، مع
تدفقاته التاريخية ولحظاته الإنسانية الكبرى". اضاف"لست بحاجة إلى أي
اعتقاد حق أو باطل، خير أو شر، أو لائحة لعنات وإدانات لأدرك قيمة الحرية
التي مارسها الحسين (الذي حصل في التاري لا علاقة بسوء النوايا بل تطور
طبيعي لشبكة مصالح فرضت نفسها، بل إن أعداء الحسين حاجة لاكتمال عناصر
المشهد الحسيني، فلولا هذا الوضع لظل الحسينية أمكاناً مفترضاً لا تاريخاً
فعلياً متحققاً). فالحرية لا تتجلى في القوة والجاه والسلطة التي تمنحك
القدرة على أن تفعل ما تريد، بل تتجلى حين تتقطع بك السبُلُ كُلُّها، وتلوذ
بوسيلة حريتك الأخيرة، وهي أن تعدم وجودك لتهزم موت الذل، دافعاً الحريةَ
بذلك إلى ذراها القصوى".
نعيم
تحدث د. نعيم قائلا" لا يعتقدنَّ أحدٌ أنّ
الكتابَ موجَّه الى الشيعة فقط، وتحديدًا الى الشيعة الإماميّة، بل هو
موجَّه الى الجميع، أعني الى جميع المذاهب الدينيّة، الاسلاميّة وغير
الإسلاميّة، هو موجّه الى الانسان بما هو إنسانٌ عاقلٌ يطرح مشكلاتٍ
فكريّةلها علاقة بالله والمعتقد والحقيقة والأنا والآخر، ويطرح هذه
المشكلات بطبيعة العقل نفسه (...).
أرى أنَّ الكتابَ في غاية الأهميّة، وهو
يُعالجُ مشكلاتٍ حاضرة، ليس لأنّ هذه المشكلاتما زالت راهنةً، ليس لأنّ
التشيُّع ما زال حاضرًا، ما زال فاعلًا في مجتمعاتنا وحسب، بل لأنّ هذه
المشكلات تعود الى الفكر بما هو كذلك.
ما ينطبق على المذهب الشيعي الاثني عشري
ينطبق على غيره من المذاهب. فالكتاب، في رأيي، يبحث عن شروط إمكان مذهب
الشيعة الإماميّة، أي ما الذي جعله ممكنًا؟ أي ما الشروط التي جعلت
التشيُّع على ما هو عليه الآن؟
يضيف "بناءً على معالجة دز وجيه لبعض
الأسئلة، يجد أنّ التشيُّعَ ليسطريقَ نجاةٍ أو ضلالٍ، خلاصٍ أو هلاكٍ،
موضعَ تقريظٍ أو إدانةٍ، بل هو ظاهرة موضوعيّة كانت حصيلة تفاعلاتٍ
وتحوّلاتٍ، اصطفافاتٍ وصراعاتٍ، مآسٍ وانتكاساتٍ، آلياتِ حكمٍ
واستراتيجيّاتٍمعارضةٍ، تمثّلاتِ غيبٍ ورؤى وحيٍ، سباقَ مشروعيّة وطرق
خلاصٍ، أفرزت جميعها أشكالًا تضامنيّة وعصبيّاتٍ اجتماعيّة وبنًى عقائديّةً
وأُطرًا خلاصيّةً، تنوّعت بحسب التموضعاتِ السياسيّة والتراتبيّات
الاجتماعيّة، وفرضت توزيعًا خاصًّا للموارد وتبايُنًا في المواقع
وتنوُّعًافي الأدوار، وتعدُّديّةً متنافسةً بشدَّةٍ حول مسائل الحق
والضلال، الهداية والغواية، الحقيقي والزائف". هذا يعني أنَّ التشيُّع لم ينشأ بفعلِ تآمرٍ خارجيٍّ كما يدّعي خصومُه، ولا بفعل عنايةٍ الهيّةٍ مباشرة كما يدّعي أصحابه.لذا،
قلنا إنّ عمل الدكتور وجيه هو عمل فيلسوفٍ وليس عملَمؤرِّخٍ، وإن كان
البحثُ تاريخيًّا". ويتوقف شارحا ومستعرضا مراحل التشيّع ، في نظر الدكتور
وجيه، وهي ثلاث مراحل:مرحلة التشيُّعِ السياسيّ،مرحلة بناء الجماعة أو الفرقة الشيعيّة ومرحلة تأسيس المذهب الإثني عشري".
كما توقف نعيم عند "منهجيَّة الدكتور وجيه
قانصو في قراءة الظاهرة الشيعيّة" و"الاليّاتٍ الجديدة في فهم الوثيقة
التّاريخيّة مميِّزًا بين زمنيْن: زمن مضمون الرواية وزمن الرّاوي".
---------------------------------------------------------------------------------------------------------
وجيه قانصو الفيلسوف المتنوّر والباحث المقدام في المجال الإسلامي العربي
لطالما سمعت وسمعنا، تكلّمت وتكلّمنا عن عصر الإنحطاط الذي نعيش فيه، على
الرغم من أنّ العالم من حولنا فيه متغيّرات جذريّة، تدعونا إلى صحوة وتفكير
في هذه المنتجات، لأنّ التعامل العقلاني مع الوجود في كلّ تجلّياته
وظواهره يتطلّب منّا موقفًا جذريًا، يتّصف بالقبول الفلسفي للواقع تمهيدًا
لتغييره. هذا ما اكتشفته عندما تعرّفت إلى مؤلّفات الدكتور وجيه قانصوه،
هذا الوجه المتجلّي، صاحب الجرأة والشجاعة، المقدام الذي همّه الوحيد
الحقيقة ولا شيء سوى الحقيقة.
يسعى وجيه قانصوه إلى تفعيل الوزنة التي أعطاه إيّاها الله، لنشر المعرفة والعلم. هو من يستحقّ لقب فيلسوف عصرنا بجدارة. إنّه المرجع الأساس في الفكر الإسلامي للأجيال القادمة، بفكره المتنوّر وكتاباته البحثيّة التي لا تحابي الوجوه والوجود.
تتعجب ممن وصل إلى أعلى المعارف في هندسة الروبوت والتحكّم الذكي في عصرنا، وهو الذي حاز شهادة الدكتوراه من جامعة واين ست ميشيغن في الولايات المتّحدة الأميركيّة، تخلّى عنها وعاد إلى وطنه لبنان ليتكرّس في العلوم الإنسانيّة، وحصل على دكتوراه في الفلسفة من جامعة الروح القدس الكسليك، ليصبح أستاذًا في الجامعة اللبنانيّة قسم الفلسفة.
كلّ هذا ليرسم خطًا، وينفض الغبار عن الكثير من الإشكاليّات، وخصوصاً في المجال الإسلامي العربي. فصدر له "التعدّديّة الدينيّة: قراءة في المرتكزات المعرفيّة واللاهوتيّة"، و"أئمة أهل البيت والسياسة". ليطلّ بكتابه المفصلي في توجّهاته الفكريّة، وهو "النص الديني في الإسلام من التفسير إلى التلقّي".
يعلن الدكتور قانصو في مقدّمة الكتاب تدشين فضاءات معنى غير مسبوقة، تفتتح عوالم جديدة تساهم جميعها في اكتشاف الذات لذاتها وإعادة بنائها. ولو كان بحسب قوله، الفصل بين الذات الباحثة وموضوع البحث أمرًا صعبًا أو بحكم المستحيل، ولكن بعد قراءة الكتاب تكتشف أنّه أجاد مهمته على أكمل وجه.
الدكتور قانصو هو من المجددين الذين يفتقر إليهم العالم العربي، كما لبنان، إذ ينبئنا بنهضة جديدة وشرارات فكريّة جريئة لم يعتد عليها عالمنا المعاصر، مطلقًا في الإسلام حقبة جديدة على غرار تلك التي أحدثتها المؤسسة الفكريّة البروتستانتية كما عصر التنوير والحداثة في أوروبا. نعم إنّه شخص بحجم مؤسسة وهو من القلائل الذين نجحوا في تشريح النص الديني وفق نظريّة الهرمنوطقيا وعمليّة الفهم، مثلما استعان لاهوتيو الكتاب المقدّس في الكنيسة الكاثوليكيّة بالنظريّات الفلسفيّة واستنبطوا منها "إغزجتك"(exegetic) أي علم تفسير الكتاب المقدّس. كذلك يدعونا إلى إعادة بناء الذاكرة المعرفيّة والدينيّة في مجرى فكرنا ووعينا الراهنين. يستحضر قانصو رصيد الخبرات التاريخيّة في فهم النص الديني وتفسيره، مؤكّدًا صلاحيّات الباحث والمفكّر أن يتفحّص كليّة التفسير وبناءاتها ويدقّق في صلاحيّتها التاريخيّة.
فالدكتور قانصو، لا يبحث في صدقيّة عمليّة إنزال القرآن الموحى على النبي محمد، بل يتطرّق إلى دراسة حقبة جمعه، والمراحل التي مرّ بها، ويضع إشكاليّات التفسير التي مرّ بها، مستشهدًا بأهم الحكماء والعلماء. ولا يغيّب طائفة أو جماعة أو فرقة، بل يحيط الموضوعات والإشكاليّات بكلّ ومن كلّ جوانبها.
ينقسم كتاب "النص الديني في الإسلام من التفسير إلى التلقّي" ثلاثة محاور كبرى، "تكوين النص الديني"، "طبيعة وبنية النص الديني" و"فهم النص الديني الإسلامي". ويعالج هذه المحاور في خمسة عشر فصلا، إختار لكلّ فصل عنوانًا لم نعتد عليه في الأبحاث العربيّة مثل "وضعيّة النص القرآني ومتغيّراته بعد التدوين"، أيضًا "النص القرآني: الطبيعة والبنية العناصر المغيّبة في قراءة النص الديني"، ليصل إلى الفصل الرابع عشر، "قراءة النص في الحاضر"، الذي فيه تتبلور خلاصة هذا الكتاب وهدفيته. ففكرة "أنّ النص الديني لكلّ زمان ومكان"، "تعني له أنّ لدى النص ما يقوله في كلّ زمان ومكان، ولا تعني، كما تتمّ ممارسته وترويجه حيث يتمّ في الوعي الديني الإنتقال بين الأزمنة مع تغييب كامل للفوارق الجوهريّة القائمة بينها، من دون طرح أي تساؤل بخصوص شروط إمكان ممارسات كهذه وصحتها". ويضيف "إنّ القول بأنّ الله يتكلّم إلينا عبر القرآن لا يعني أنّ ما قاله النص لجيل المتلقّين الأوائل هو عين ما يقوله لنا، أو أن ما نفهمه منه يجب أن يكون مطابقًا لما كانوا يفهمونه". كذلك يرفض قانصو أنّ القرآن هو مجرّد سجل ثابت لتوجيهات وتعاليم تتلقى وتفهم وتطبّق في كلّ الأزمنة على هيئة واحدة.
الدكتور وجيه قانصو، في هذا البحث يكون فاتحًا مقدامًا يدعونا إلى تحرير النص الديني من دلالات مقرّرة مسبقًا تفرض عليه ما يجب قوله وتحجب عنه ما يمكن أن يقوله، وهمّه إخراج النص الديني من حدوده التاريخيّة وإعادة بناء جسر تواصل بين القارئ المعاصر والنص الديني الذي لم يعد يتّخذ صفة المباشرية التي كانت خلال زمن النبي ويدعونا إلى بناء سياق تواصلي مختلف بعد الوعي بمتغيّرات التلاقي بين الزمنين ويضيف متغيّرات تفرض علينا بناء نسق دلالي جديد وتوليد خطاب آخر نشعر أنّنا معنيّون به ومخاطبون به.
لم يكتفِ الدكتور وجيه قانصو بهذا الكتاب، فصدر له أخيرًا كتاب جديد تحت عنوان "الشيعة الإماميّة بين النص والتاريخ دراسة في مراحل التكوين الأولى". أراد من هذا الكتاب تعريف الظاهرة الشيعيّة في حضورها وظهورها التاريخي، فتجرّأ بقوله: "هنالك فرق بين ما قيل للآخرين وما يُقال لنا الآن".
وهو مقتنع بأنّ التشيع ليس مجموعة معتقدات ظهرت دفعة واحدة بل ظهرت وتم تناقلها عبر الأجيال المتعاقبة بتقيّة متقنة وتكتّم شديد، وليست هي حالة سياسيّة فارغة.
إنّ التشيع هو كما أهل السنّة والجماعة، نتاج مساحة حضاريّة وسباق تاريخيّ مشترك. بذلك يؤكّد أنّ التشيع لا يزال من التاريخ وفي التاريخ وأنّه لا يزال إحدى أبرز معضلات الإسلام الشائكة المتخمة بالأسئلة الحرجة والمهملة من الجميع، رافضًا الفكرتين المتناقضتين، الأولى التي تؤكّد أنّ التشيّع حدث طارئ في التاريخ الإسلامي، كما الثانية تعتبر التشيّع أمرًا إلهيًا خالصًا، ويعتبرهما متفقتين في المنهج.
يهدف هذا الكتاب بحسب رأي الكاتب إلى تعرّف ظاهرة التشيّع في حضورها وظهورها التاريخي، لا الوقوف على سرّها المضمر أو النيّات الخفيّة التي تقف وراءها، في محاولة لتفسيرها وفهمها لا تقريظها أو إسقاطها. كما يحاول الإجابة عن السؤال المحوري في هذا الكتاب "لماذا حدثت الظاهرة الشيعيّة وكيف تطوّرت في مجرى التاريخ؟"
ان هم الباحث إعادة الظاهرة الشيعيّة في مجراها التاريخي، ودراستها والإفادة من إنجازاتها وتحليل الإنجرافات التي تعرّضت لها عبر التاريخ. يقسم هذا الكتاب مع موضوعيّته التاريخيّة والبحثيّة ظاهرة التشيّع الإمامي ثلاث مراحل رئيسيّة: مرحلة "التشيّع السياسيّ"، مرحلة "بناء الجماعة أو الفرقة الشيعيّة"، ومرحلة "تأسيس المذهب الإثني عشر".
يرى قانصو المذهب الإمامي بصفته منتجا إسلاميا، ويحرص على رؤية المشهد بوجهيه الخارجي والداخلي. إنّ السياق التفاعلي بين المكنونات الإسلاميّة المتعددة فرض على التشيّع وضعا سياسيا وإجتماعيا وتكوينا عقائديا خاصا من الداخل، من دون أن يفارق الأرض المشتركة لكلّ المذاهب والتيّارات الإسلاميّة من الخارج.
يقول قانصو: "آن الأوان، النظر في رهانات أخرى لا يزال الإعتقاد الحالي يتعامل معها تعامل المستحيل التفكير فيه والممتنع عن التداول، والتفكير من جديد بمنطلقات تأسيسيّة وطوابع منهجيّة ليس في تنقية الإرث الروائي فحسب، بل في طريقة فهمه وتأويله".
رافضًا أن يكون التشيّع بصفته حالة ثابتة وعلى وتيرة حضور واحد في التاريخ، وهذا ما بيّنه في المسار التاريخي. ان هذا الكتاب المرجع سيبقى شاهدًا بأنّ عصرنا ليس عصر انحطاط بل لا يزال موجودا فيه أمثال قانصو يبحثون ويفكرون ويؤمنون بأنّ الحياة في حالة ديناميكيّة تحمل الإنسان إلى الرقي والتقدّم، وحياتنا هي مسيرة تراكمات فكريّة.
إن اختلفت الطوائف في حساسيّتها وخطابها الديني بحسب مواقعها وظروفها، فيتغيّر المعنى وعمليّة فهمها بتغيّر شروط الحياة، عسى أن تفهم كلّ طائفة وجماعة حيثيّات وجودها التاريخي. فنعود ونأخذ ونخطو إلى الأمام وسط ظروف تحميل النص الديني ما لا يحمله خدمة لإيديولوجيّتنا ومصالحنا الخاصة.
إن الدكتور وجيه قانصو أيقونة جديدة منيرة تفتح لنا آفاقًا جديدة في التفكير والبحث والمنهجيّة من أجل مجتمع أفضل يبحث في تاريخه ليعطي معنى جديد لواقعه المتألّم والمنحرف بإيديولوجيّات عقيمة.
يسعى وجيه قانصوه إلى تفعيل الوزنة التي أعطاه إيّاها الله، لنشر المعرفة والعلم. هو من يستحقّ لقب فيلسوف عصرنا بجدارة. إنّه المرجع الأساس في الفكر الإسلامي للأجيال القادمة، بفكره المتنوّر وكتاباته البحثيّة التي لا تحابي الوجوه والوجود.
تتعجب ممن وصل إلى أعلى المعارف في هندسة الروبوت والتحكّم الذكي في عصرنا، وهو الذي حاز شهادة الدكتوراه من جامعة واين ست ميشيغن في الولايات المتّحدة الأميركيّة، تخلّى عنها وعاد إلى وطنه لبنان ليتكرّس في العلوم الإنسانيّة، وحصل على دكتوراه في الفلسفة من جامعة الروح القدس الكسليك، ليصبح أستاذًا في الجامعة اللبنانيّة قسم الفلسفة.
كلّ هذا ليرسم خطًا، وينفض الغبار عن الكثير من الإشكاليّات، وخصوصاً في المجال الإسلامي العربي. فصدر له "التعدّديّة الدينيّة: قراءة في المرتكزات المعرفيّة واللاهوتيّة"، و"أئمة أهل البيت والسياسة". ليطلّ بكتابه المفصلي في توجّهاته الفكريّة، وهو "النص الديني في الإسلام من التفسير إلى التلقّي".
يعلن الدكتور قانصو في مقدّمة الكتاب تدشين فضاءات معنى غير مسبوقة، تفتتح عوالم جديدة تساهم جميعها في اكتشاف الذات لذاتها وإعادة بنائها. ولو كان بحسب قوله، الفصل بين الذات الباحثة وموضوع البحث أمرًا صعبًا أو بحكم المستحيل، ولكن بعد قراءة الكتاب تكتشف أنّه أجاد مهمته على أكمل وجه.
الدكتور قانصو هو من المجددين الذين يفتقر إليهم العالم العربي، كما لبنان، إذ ينبئنا بنهضة جديدة وشرارات فكريّة جريئة لم يعتد عليها عالمنا المعاصر، مطلقًا في الإسلام حقبة جديدة على غرار تلك التي أحدثتها المؤسسة الفكريّة البروتستانتية كما عصر التنوير والحداثة في أوروبا. نعم إنّه شخص بحجم مؤسسة وهو من القلائل الذين نجحوا في تشريح النص الديني وفق نظريّة الهرمنوطقيا وعمليّة الفهم، مثلما استعان لاهوتيو الكتاب المقدّس في الكنيسة الكاثوليكيّة بالنظريّات الفلسفيّة واستنبطوا منها "إغزجتك"(exegetic) أي علم تفسير الكتاب المقدّس. كذلك يدعونا إلى إعادة بناء الذاكرة المعرفيّة والدينيّة في مجرى فكرنا ووعينا الراهنين. يستحضر قانصو رصيد الخبرات التاريخيّة في فهم النص الديني وتفسيره، مؤكّدًا صلاحيّات الباحث والمفكّر أن يتفحّص كليّة التفسير وبناءاتها ويدقّق في صلاحيّتها التاريخيّة.
فالدكتور قانصو، لا يبحث في صدقيّة عمليّة إنزال القرآن الموحى على النبي محمد، بل يتطرّق إلى دراسة حقبة جمعه، والمراحل التي مرّ بها، ويضع إشكاليّات التفسير التي مرّ بها، مستشهدًا بأهم الحكماء والعلماء. ولا يغيّب طائفة أو جماعة أو فرقة، بل يحيط الموضوعات والإشكاليّات بكلّ ومن كلّ جوانبها.
ينقسم كتاب "النص الديني في الإسلام من التفسير إلى التلقّي" ثلاثة محاور كبرى، "تكوين النص الديني"، "طبيعة وبنية النص الديني" و"فهم النص الديني الإسلامي". ويعالج هذه المحاور في خمسة عشر فصلا، إختار لكلّ فصل عنوانًا لم نعتد عليه في الأبحاث العربيّة مثل "وضعيّة النص القرآني ومتغيّراته بعد التدوين"، أيضًا "النص القرآني: الطبيعة والبنية العناصر المغيّبة في قراءة النص الديني"، ليصل إلى الفصل الرابع عشر، "قراءة النص في الحاضر"، الذي فيه تتبلور خلاصة هذا الكتاب وهدفيته. ففكرة "أنّ النص الديني لكلّ زمان ومكان"، "تعني له أنّ لدى النص ما يقوله في كلّ زمان ومكان، ولا تعني، كما تتمّ ممارسته وترويجه حيث يتمّ في الوعي الديني الإنتقال بين الأزمنة مع تغييب كامل للفوارق الجوهريّة القائمة بينها، من دون طرح أي تساؤل بخصوص شروط إمكان ممارسات كهذه وصحتها". ويضيف "إنّ القول بأنّ الله يتكلّم إلينا عبر القرآن لا يعني أنّ ما قاله النص لجيل المتلقّين الأوائل هو عين ما يقوله لنا، أو أن ما نفهمه منه يجب أن يكون مطابقًا لما كانوا يفهمونه". كذلك يرفض قانصو أنّ القرآن هو مجرّد سجل ثابت لتوجيهات وتعاليم تتلقى وتفهم وتطبّق في كلّ الأزمنة على هيئة واحدة.
الدكتور وجيه قانصو، في هذا البحث يكون فاتحًا مقدامًا يدعونا إلى تحرير النص الديني من دلالات مقرّرة مسبقًا تفرض عليه ما يجب قوله وتحجب عنه ما يمكن أن يقوله، وهمّه إخراج النص الديني من حدوده التاريخيّة وإعادة بناء جسر تواصل بين القارئ المعاصر والنص الديني الذي لم يعد يتّخذ صفة المباشرية التي كانت خلال زمن النبي ويدعونا إلى بناء سياق تواصلي مختلف بعد الوعي بمتغيّرات التلاقي بين الزمنين ويضيف متغيّرات تفرض علينا بناء نسق دلالي جديد وتوليد خطاب آخر نشعر أنّنا معنيّون به ومخاطبون به.
لم يكتفِ الدكتور وجيه قانصو بهذا الكتاب، فصدر له أخيرًا كتاب جديد تحت عنوان "الشيعة الإماميّة بين النص والتاريخ دراسة في مراحل التكوين الأولى". أراد من هذا الكتاب تعريف الظاهرة الشيعيّة في حضورها وظهورها التاريخي، فتجرّأ بقوله: "هنالك فرق بين ما قيل للآخرين وما يُقال لنا الآن".
وهو مقتنع بأنّ التشيع ليس مجموعة معتقدات ظهرت دفعة واحدة بل ظهرت وتم تناقلها عبر الأجيال المتعاقبة بتقيّة متقنة وتكتّم شديد، وليست هي حالة سياسيّة فارغة.
إنّ التشيع هو كما أهل السنّة والجماعة، نتاج مساحة حضاريّة وسباق تاريخيّ مشترك. بذلك يؤكّد أنّ التشيع لا يزال من التاريخ وفي التاريخ وأنّه لا يزال إحدى أبرز معضلات الإسلام الشائكة المتخمة بالأسئلة الحرجة والمهملة من الجميع، رافضًا الفكرتين المتناقضتين، الأولى التي تؤكّد أنّ التشيّع حدث طارئ في التاريخ الإسلامي، كما الثانية تعتبر التشيّع أمرًا إلهيًا خالصًا، ويعتبرهما متفقتين في المنهج.
يهدف هذا الكتاب بحسب رأي الكاتب إلى تعرّف ظاهرة التشيّع في حضورها وظهورها التاريخي، لا الوقوف على سرّها المضمر أو النيّات الخفيّة التي تقف وراءها، في محاولة لتفسيرها وفهمها لا تقريظها أو إسقاطها. كما يحاول الإجابة عن السؤال المحوري في هذا الكتاب "لماذا حدثت الظاهرة الشيعيّة وكيف تطوّرت في مجرى التاريخ؟"
ان هم الباحث إعادة الظاهرة الشيعيّة في مجراها التاريخي، ودراستها والإفادة من إنجازاتها وتحليل الإنجرافات التي تعرّضت لها عبر التاريخ. يقسم هذا الكتاب مع موضوعيّته التاريخيّة والبحثيّة ظاهرة التشيّع الإمامي ثلاث مراحل رئيسيّة: مرحلة "التشيّع السياسيّ"، مرحلة "بناء الجماعة أو الفرقة الشيعيّة"، ومرحلة "تأسيس المذهب الإثني عشر".
يرى قانصو المذهب الإمامي بصفته منتجا إسلاميا، ويحرص على رؤية المشهد بوجهيه الخارجي والداخلي. إنّ السياق التفاعلي بين المكنونات الإسلاميّة المتعددة فرض على التشيّع وضعا سياسيا وإجتماعيا وتكوينا عقائديا خاصا من الداخل، من دون أن يفارق الأرض المشتركة لكلّ المذاهب والتيّارات الإسلاميّة من الخارج.
يقول قانصو: "آن الأوان، النظر في رهانات أخرى لا يزال الإعتقاد الحالي يتعامل معها تعامل المستحيل التفكير فيه والممتنع عن التداول، والتفكير من جديد بمنطلقات تأسيسيّة وطوابع منهجيّة ليس في تنقية الإرث الروائي فحسب، بل في طريقة فهمه وتأويله".
رافضًا أن يكون التشيّع بصفته حالة ثابتة وعلى وتيرة حضور واحد في التاريخ، وهذا ما بيّنه في المسار التاريخي. ان هذا الكتاب المرجع سيبقى شاهدًا بأنّ عصرنا ليس عصر انحطاط بل لا يزال موجودا فيه أمثال قانصو يبحثون ويفكرون ويؤمنون بأنّ الحياة في حالة ديناميكيّة تحمل الإنسان إلى الرقي والتقدّم، وحياتنا هي مسيرة تراكمات فكريّة.
إن اختلفت الطوائف في حساسيّتها وخطابها الديني بحسب مواقعها وظروفها، فيتغيّر المعنى وعمليّة فهمها بتغيّر شروط الحياة، عسى أن تفهم كلّ طائفة وجماعة حيثيّات وجودها التاريخي. فنعود ونأخذ ونخطو إلى الأمام وسط ظروف تحميل النص الديني ما لا يحمله خدمة لإيديولوجيّتنا ومصالحنا الخاصة.
إن الدكتور وجيه قانصو أيقونة جديدة منيرة تفتح لنا آفاقًا جديدة في التفكير والبحث والمنهجيّة من أجل مجتمع أفضل يبحث في تاريخه ليعطي معنى جديد لواقعه المتألّم والمنحرف بإيديولوجيّات عقيمة.
-----------------------------------------------------------------------------------------------------------
وجيه قانصوه والماركسية الشيعية
وجيه
قانصوه غسل سيئات الماضي بحسنات الحاضر في محاولة مكلفة للتخلص من مرحلة
شارك فيها وساهم في بناء أحجار الجهل باعتبارها ركائز البناء الثقافي
للحركة الاسلامية
من بين قلّة لمع اسم وجيه
قانصوه في الحركة الإسلامية (الشيعية ) بُعيد المدّ الخميني وبدا اسماً على
مسمى في الوعي الديني وأكمل مجهوده الحركي في خط الثورة مستقيماً في
الدائرة المعرفية ضمن مجموعة محدودة لم تعرف اليسار العربي ولم تنخرط
مسبقاً في الاتجاه القومي وكانت ذات تجربة بكرية في التجربة الاسلامية
الحديثة التي تأسّست في أولى دعواتها على خُطب نُخب رجال دين نهضوا من كبوة
الانتظار الى صحوة التمهيد .
آنذاك كانت الحركة الاسلامية تتسع للعلم بالمعنى المعاصر وهذا ما أغرّ
ببعض المتعلمين الذين مالوا الى الدين واستحسنوا ما فيه من دعوة الى الجمع
مابين الدنيا و الآخرة في علاقة غير مأزومة مع الله والناس خاصة و أن
تأثيرات الثورة الإيرانية قد وصلت حماستها الى كل باحث عن خيارات من خارج
السائد السياسي ممن لم تضعه الظروف في سياق السياسات الثورية ذات التأشيرات
الماركسية بعد أن مروا طوعاً في الشبكات القومية .
مع بروز الحالة الاسلامية الشيعية المتمظهرة في حزب الله بدت النخب
الثقافية ناشطة وهذا ما أتاح الفرص لأسماء أثبتت حضوراً في الساحة الثقافية
وباتت كأسماء كتب معروفة في المكتبة الدينية لم يكن المرور في خط الإسلام
السياسي دون الإطلاع عليها وهذا ما عزّز من أدوار النخبة الدينية المثقفة
والمتعلمة كدرجة ثانية بعد درجة رجال الدين الأولى باعتبارهم رُسُل الرسالة
والدعوة وقادة الحركة الاسلامية ولا مجال للمدني فيها ومهما علا شأنه سوى
الخضوع والانقياد لقيادة رجل الدين و إن كان أميّاً .
إقرأ أيضًا: اذا كان حزب الله القفل الحكومي فمفتاح الحلّ بري
سمعت بالدكتور وجيه قانصوه من خلال الشهرة التي انتشرت في أوساط
المهتمين بالدين " العقلي " وتابعت ظاهرة الدكاترة الذين وفدوا الى دين
الحالة الاسلامية أو نموا مع الحركة الاسلامية باهتمام باعتبارهم مادة
سجالية داخل مساحة ضيقة من الجدل وهذا ما أغرّ أيضاً ببعض المتأثرين بالنخب
المتعلمة والتي استمالتها الحالة الاسلامية فانخرطوا في الجو الديني
تشجيعاً من قبل عقول الدكاترة الذين أغرُوا بعد أن انغرّوا هم أيضاً بوعود
لم يجدوها فسلك أكثرهم طرُق الله بعد أن ظنوه طرُق الشيطان .
طبعاً بدت السنوات سريعة جداً وحملت مفاجأت تم بموجبها انتقال
الكثيرين أو القلّة المُفكرة من موقع الى موضع آخر ومن بين هؤلاء القلّة
الدكتور وجيه قانصوه الذي غسل سيئات الماضي بحسنات الحاضر في محاولة مكلفة
للتخلص من مرحلة شارك فيها وساهم في بناء أحجار الجهل باعتبارها ركائز
البناء الثقافي للحركة الاسلامية وكانت كتاباته وكتبه الأخيرة تمسح ما تقدم
من ذنوب الطاعة لرجال الدين وما تأخرّ لنصوص ميتة تريد إحياء البشر على
لحودها .
في استضافة المركز العربي للحوار وموقع لبنان الجديد للدكتور وجيه
قانصوه مساحة شغلها لساعة في تحريك النص الماركسي المهمش واعتباره أداة
لفعل تاريخي يتيح لثورة مختلفة عن الثورة البلشفية امكانية حدوثها
باعتبارها ضرورة لنقل المجتمعات من مستوى اجتماعي معين الى مستوى آخر أكثر
تلبية للأكثرية مما هو عليه من حاجة محصورة بمصالح قلّة من الأفراد أو
الشبكات الاقتصادية .
أن يعيد اسلامي قديم بنى أفكاره على كُتُب قطب والبنا وباقر الصدر
والسيدّ فضل الله بناءًا على تعاليم ماركسية هجرها الماركسيون وعافتها
الأحزاب الشيوعية العربية محط دراسة في الوعي الديني المستجد والذي يدفع
بالايمان الأعمى الى كفر أكثر بصراً بحيث يفتح العقل على منتوجاته وبضاعته
الفكرية والتي تبحث عن حلول لمشكلات البشر في فضاء من التحولات الاجتماعية
ضمن صيرورات تاريخية لا يمكن صدّها بمواد دينية جاهزة .
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق
ملحوظة: يمكن لأعضاء المدونة فقط إرسال تعليق.